قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)(١٧)
(فَأَعْرَضُوا) عن الشكر. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم ، وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، أو المطر الشديد أو الجرذ ، أضاف إليه ال (سَيْلَ) لأنه نقب عليهم سكرا ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقبا على مقدار ما يحتاجون إليه ، أو المسناة الّتي عقدت سكرا على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة ، وقيل اسم واد جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام. (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة ، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له ، والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلا ، أو عطف بيان. (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) معطوفان على (أُكُلٍ) لا على (خَمْطٍ) ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له ، وقرئا بالنصب عطفا على (جَنَّتَيْنِ) ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين ، وتسمية البدل (جَنَّتَيْنِ) للمشاكلة والتهكم. وقرأ أبو عمرو «ذواتي أكل» بغير تنوين اللام وقرأ الحرميان بتخفيف (أُكُلٍ).
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل ، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم ، وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وهل يجازى إلّا الكفور وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص (نُجازِي) بالنون و (الْكَفُورَ) بالنصب.
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩)
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالتوسعة على أهلها وهي قرى الشأم. (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يظهر بعضها لبعض ، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. (سِيرُوا فِيها) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) متى شئتم من ليل أو نهار. (آمِنِينَ) لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات ، أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها ، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشأم مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الأزواد ، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» ، ويعقوب (رَبَّنا باعِدْ) بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه ، ومثله قراءة من قرأ «ربنا بعد» أو «بعد» على النداء وإسناد الفعل إلى (بَيْنَ). (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها. (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان. (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر. (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن المعاصي. (شَكُورٍ) على النعم.
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)