(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم. (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فالأغلال ، واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له.
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص سدا بالفتح وهو لغة فيه ، وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم. وقرئ «فأعشيناهم» من العشاء. وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلىاللهعليهوسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره.
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)(١١)
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) سبق في «البقرة» تفسيره.
(إِنَّما تُنْذِرُ) إنذارا يترتب عليه البغية المرومة. (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به. (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله ، أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن ، منتقم قهار. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. (وَآثارَهُمْ) الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه ، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١٤)
(وَاضْرِبْ لَهُمْ) ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له ، والقرية أنطاكية. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل من أصحاب القرية ، و (الْمُرْسَلُونَ) رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله :
(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس ، وقيل غيرهما. (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا) فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به. (بِثالِثٍ) وهو شمعون. (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليهالسلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية