وتمكينا له في النفوس وكذا قوله :
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ)(٥٦)
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) متلذذون في النعمة من الفكاهة ، وفي تنكير (شُغُلٍ) وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (فِي شُغُلٍ) بالسكون ، ويعقوب في رواية «فكهون» للمبالغة وهما خبران ل (إِنَ) ، ويجوز أن يكون (فِي شُغُلٍ) صلة ل (فاكِهُونَ) ، وقرئ «فكهون» بالضم وهو لغة كنطس ونطس «وفاكهين» «وفكهين» على الحال من المستكن في الظرف ، و (شُغُلٍ) بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات.
(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي في «ظلل». (عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر المزينة. (مُتَّكِؤُنَ) و (هُمْ) مبتدأ خبره (فِي ظِلالٍ) ، و (عَلَى الْأَرائِكِ) جملة مستأنفة أو خبر ثان أو (مُتَّكِؤُنَ) والجارّان صلتان له ، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون ، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإن وأزواجهم عطف على (هُمْ) للمشاركة في الأحكام الثلاثة ، و (فِي ظِلالٍ) حال من المعطوف والمعطوف عليه.
(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥٨)
(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه ، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه ، أو يتمنون من قولهم ادّع علي ما شئت بمعنى تمنه علي ، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و (ما) موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء ، و (لَهُمْ) خبرها وقوله :
(سَلامٌ) بدل منها أو صفة أخرى ، ويجوز أن يكون خبرها أو خبرها محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام ، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصا. (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي يقول الله أو يقال لهم قولا كائنا من جهته ، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم ، ويحتمل نصبه على الاختصاص.
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦١)
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ). وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتا ينفرد به لا يرى ولا يرى.
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة ، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان ، لأنه الآمر بها والمزين لها ، وقرئ «اعهد» بكسر حرف المضارعة و «أحهد» و «أحد» على لغة بني تميم. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيما يحملهم عليه.
(وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على (أَنْ لا تَعْبُدُوا). (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته ، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر ، والتنكير للمبالغة والتعظيم ، أو للتبعيض