الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ، والفاء من (فَأْتُوا) جوابية وأمر السببية ظاهر ، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان ، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض ، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك (لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة : ٥٤] وأصل (فَأْتُوا) فأتيوا فأعل الإعلال المشهور ، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و «توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
و (مِنْ مِثْلِهِ) إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما ـ لما ـ التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين ، والأخفش يجوز زيادتها في مثله ، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر ، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا (١) كما قيل : في مثلك لا يجهل ، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ (مِنْ) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي ، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي ، وعلى الثاني يتعين أن تكون (مِنْ) للابتداء مثلها في (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٠] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول ، وإما أن تكون صلة (فَأْتُوا).
والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن (مِنْ) لا تكون بيانية إذ لا مبهم ، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في ـ أخذت من الدراهم ـ ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض ، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (مِنْ) ولأنه يلزم أن يكون (بِسُورَةٍ) ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية ، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل ، وجعل المتكلم مبدأ عرفا ـ للإتيان بالكلام منه ـ معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة ، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي ، أو المادي ، أو الغائي ، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك ، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة ، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى (مِنْ) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) [الزخرف : ٦٠] وللمجاوزة كعذت منه ، فعلى هذا ـ لو علق (مِنْ مِثْلِهِ) ب (فَأْتُوا) وحمل (مِنْ) على البدل أو المجاوزة و ـ مثل ـ على المقحم ورجع الضمير إلى (مِمَّا نَزَّلْنا) على معنى (فَأْتُوا) بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة ـ لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز ، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن ، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض ، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه : وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو ـ قرأت من أول السورة إلى آخرها ، وأعطيتك من درهم إلى دينار ـ وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه ، ولا
__________________
(١) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه ا ه منه.