الكتمان ـ فالمعنى ـ أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه ، وذكر الساليكوتي أن كلمة ـ كان ـ صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان ، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك (ما لا تَعْلَمُونَ) أعم مفهوما لشموله ـ غيب الغيب ـ الشامل لذات الله تعالى وصفاته ـ وخصها قوم ـ فمن قائل : (غَيْبَ السَّماواتِ) أكل آدم وحواء من الشجرة ، وغيب (الْأَرْضِ) قتل قابيل هابيل ، ومن قائل : «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء ، ومن قائل : «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة ، والأولى ـ وما أبدوه ـ قبل قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها) وما كتموه ، قولهم : لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا ، وقيل : ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل : ما أسره إبليس من الكبر ، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب ـ بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم ـ ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع ، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم ـ فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس ـ وأبدى سبحانه العامل في (ما تُبْدُونَ) إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم ـ والظاهر عطفه على الأول ـ فهو داخل معه تحت ذلك القول ، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة (أَلَمْ أَقُلْ) فلا يدخل حينئذ تحته.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام ـ كانقادوا وأطاعوا ـ والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة ـ مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به ـ ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين ، وجوز على أن نصب السابق بمقدر ، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره ، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة ـ وفي المعنى المأمور به هنا خلاف ـ فقيل : المعنى الشرعي ، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى ـ وآدم إما قبلة أو سبب ـ واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس ، وبأنه لا يدل على تفضيله عليهالسلام عليهم. وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] يدل عليه ـ ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها ـ وأجيب بالتباس الأمر على إبليس ، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم ، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن ـ كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن ـ ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليهالسلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق ـ إنما منع في شرعنا ـ وفيه أن السجود الشرعي عبادة ، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ـ ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل : المعنى اللغوي ـ ولم يكن فيه وضع الجباه ـ بل كان مجرد تذلل وانقياد ، فاللام إما باقية على ظاهرها ، وإما بمعنى ـ إلى ـ مثلها في قول حسان رضي الله عنه :
أليس أول من صلى «لقبلتكم» |
|
وأعرف الناس بالقرآن والسنن |
أو للسببية ، مثلها في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليهالسلام ، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم ، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) وهنا (وَإِذْ قُلْنا) ـ بضمير العظمة ـ لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه ـ وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة ـ وأيضا في السجود تعظيم ، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم ، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية ـ وليست بخطإ كما ظن الفارسي ـ فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل ، فقالت ـ أفي السوء نتنه ـ تريد أفي السوأة أنتنه.