(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه ، و (إِبْلِيسَ) اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، ووزنه ـ فعليل ـ قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره : إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى ، ووزنه على هذا مفعيل ، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء. واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر ـ كإحليل وإكليل ـ وفيه نظر ، وقيل : لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب ، وليس بشيء ، واختلف الناس فيه ، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر ، وبأن الملائكة ـ كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ خلقوا من النور ، وخلق الجن (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٥] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] وعد تركه السجود ـ إباء واستكبارا حينئذ ـ إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل ، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة ، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن ، أو لأنه ـ عليه اللعنة ـ كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى : (إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] وضمير (فَسَجَدُوا) راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء ـ وتصحيحه بما ذكر تكلف ـ لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم ـ كما نطقت به الآثار ـ فلم يكن مغمورا بينهم ، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت ، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس ، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه ـ ودون إثباته خرط القتاد ـ واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا ، وقوله تعالى : (فَفَسَقَ) كالبيان له ، ويجوز أيضا أن يكون (كانَ) بمعنى صار ـ كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية ـ فصار جنيا ـ كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير ـ سلمنا ، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا ، فإن الجن ـ كما يطلق على ما يقابل الملك ـ يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا ، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا ـ كما قاله ابن إسحاق ـ لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس ، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] وورد مثله في كلام العرب ، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليهالسلام :
وسخر من جن الملائك تسعة |
|
قياما لديه يعملون بلا أجر |
وكون الملائكة لا يستكبرون ـ وهو قد استكبر ـ لا يضر ، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم ـ وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا ـ وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك ، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية ـ فعصى عند ذلك ـ والملك ما دام ملكا لا يعصى.
ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا ـ ولا قادح في ملكيته ـ لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض ، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب ـ وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار ـ إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه ، وورد أن تحت العرش نهرا إذا اغتسل فيه جبريلعليهالسلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك ، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ـ وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات ـ كالبررة والفسقة من الإنس ـ والجن يشملهما ـ وكان إبليس من هذا الصنف ، فعده ما