شئت من ـ ملك ، وجن ، وشيطان ـ وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة ، ومنقطع إن لم يكن منهم ، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني ، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه ، والمتصل هو المستثنى من جنسه ، قال القرافي في العقد المنظوم : وهو غلط فيهما ، فإن قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) [النساء : ٢٩] (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان ، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به ـ ولا بد من هذين القيدين ـ فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس ـ سواء حكم عليه بنقيضه أو لا ـ نحو رأيت القوم إلا فرسا ، فالمنقطع نوعان ، والمتصل نوع واحد ، ويكون المنقطع كنقيض المتصل ، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه ، فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ) إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض ، لأن نقيضه ذاقوه فيها ـ وليس كذلك ـ وكذلك (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) لأنها لا تؤكل بالباطل ـ بل بحق ـ وكذلك (إِلَّا خَطَأً) لأنه ليس له القتل مطلقا ـ وإلا لكان مباحا ـ فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة ، الحكم على الجنس بغير النقيض ، والحكم على غيره به أو بغيره ، والمتصل نوع واحد ـ فهذا هو الضابط ـ وقيل : العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه ، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم ـ نفعنا الله تعالى بهم ـ أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدسسره دافعا ما يرد على الظاهر :
طه النبي تكونت من نوره |
|
كل الخليقة ثم لو ترك القطا |
وفي الآثار ما يؤيد ذلك ، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال ، وإبليس من حيث الجلال ، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى ، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق ، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها ، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس ـ ولم يكن اسمه من قبل ـ بل كان اسمه عزازيل ، أو الحارث ، وكنيته أبا مرة ـ ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه ـ والله تعالى (يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤] وفي قوله تعالى : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) نوع إشارة إلى بعض ما ذكر ، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل ، وقيل : إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) مستأنف أو في موضع الحال ، وقيل : الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل ، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل ، ولهذا كان قولك ـ أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم ـ ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك (يَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] وقوله :
أبى الله إلا عدله ووفاءه |
|
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع |
والفعل منه ـ أبى ـ بالفتح ، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع ـ أبي ـ كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود ، و ـ الاستكبار ـ التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل ، وقيل : التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع ، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع ، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ