والمراد بما أنزلت القرآن ، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها ، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات ـ كالكذب ، والزنا ، والربا ـ أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع ، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون ، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم ، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم ، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني» وتقييد المنزل بكونه ـ مصدقا لما معهم ـ لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا ، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب ـ والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وما معهم بالتوراة والإنجيل ، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل ـ مصدقا ـ حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية ، ومصدقا حال من ـ ما ـ الثانية ، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم ، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. و (أَوَّلَ) في المشهور أفعل لقولهم : هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل : أصله ـ أوأل ـ من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي ، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي ـ أعني ذاته تعالى ـ ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية ، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع ، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا ، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع ، وقال الدريدي : هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة ، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل ، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع ، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي (أَوَّلَ) فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم ، والمراد عموم السلب كما في (لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) [القلم : ١٠] وبعض الناس ـ لا يوجب في مثل هذا ـ المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله :
وإذا هم طعموا فألأم طاعم |
|
وإذا هم جاعوا فشر جياع |
ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض ـ فأول ـ الكافرين غيرهم أو (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم ، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من ـ لا تكونوا أول كافر ـ بما