معكم ـ لا تكونوا أول كافر ـ ممن كفر بما معه ـ ومشركو مكة ـ وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه ، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه ، إن هذا واقع في مقابلة (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان ، وقيل : يقدر في الكلام مثل ، وقيل : يقدر ـ ولا تكونوا أول كافر ـ وآخره وقيل : (أَوَّلَ) زائدة ، والكل بعيد ، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية ، وقيل : إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه ، وقد يقال : إنها بمعنى السبق ، وعدم التخلف ، فافهم (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق ـ كالمرسن في الأنف ـ أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي ، والكلام على الحذف ـ أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي ، والاتباع لها ـ حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي ، والتعبير عن ذلك ـ بالثمن ـ مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان ، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه ، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان ، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال ، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلىاللهعليهوسلم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام ، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلىاللهعليهوسلم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا ، وقيل : كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا ، وقيل : غير ذلك ، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم ، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح أنهم قالوا : «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال : إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى» وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة ، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل ، وإنما ذكر في الآية الأولى (فَارْهَبُونِ) وهنا (فَاتَّقُونِ) لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله ، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد ـ العلماء منهم ، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات ـ أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات ، وليس وراء عبادان قرية.
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى : (وَآمِنُوا) إلخ ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد: ٣] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك ، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس (١) بفتح اللام الخلط ، وفعله لبس من باب ضرب
__________________
(١) وأما ـ اللبس ـ بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج ، ويفهم ذلك من الصحاح ا ه منه.