ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز : والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في ـ الحق والباطل ـ للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره ، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل ـ وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك ـ استحق الأولوية التي نفيت (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) مجزوم بالعطف على (تَلْبِسُوا) فالنهي عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار ـ أن ـ وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو ـ وهي عندهم بمعنى مع ـ وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف ، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه ، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح ، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء ، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع ، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس ـ لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك ـ ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له ، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلىاللهعليهوسلم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ وتكتمون ـ وخرجت على أن الجملة في موضع الحال ـ أي وأنتم تكتمون أو كاتمين ـ وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان ، وليس للمانع دليل يعتمد عليه ، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في ـ لا تضرب زيدا وهو أخوك ـ وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك ـ وهو سيبويه وجماعة ـ ولا يشترط التناسب في عطف الجمل (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ومفعول (تَعْلَمُونَ) محذوف اقتصارا ـ أي وأنتم من ذوي العلم ـ ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه ، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار ـ أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون ـ أو تعلمون صفته صلىاللهعليهوسلم أو البعث والجزاء ، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل ـ وليس من يعلم كمن لا يعلم ـ وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار ، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه ، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) المراد بهما ـ سواء كانت اللام للعهد أو للجنس ـ صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم ، والزكاة في الأصل النماء والطهارة ، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم ، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال : إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما ، أو أن يكون أمرا للمسلمين ـ كما قاله الشيخ أبو منصور ـ خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر ، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة ، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية ، ثم من قال : لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلىاللهعليهوسلم أركان ذلك وشرائطه ، ومن قال بجوازه قال بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه ـ كما يقول السيد لعبده