إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها ، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل : الركوع ـ الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي :
لا تذل الفقير علّك أن |
|
«تركع» يوما والدهر قد رفعه |
ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية : وفي المراد بالراكعين قولان : فقيل ، النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وقيل : الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَ) إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي ـ فإن أصدق كلمة قالها شاعر ـ لكمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا (تَكْتُمُوا الْحَقَ) بالتفاتكم إلى غيره سبحانه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بمراقبة القلوب (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل :
كل شيء له «زكاة» تؤدى |
|
و ـ زكاة ـ الجمال رحمة مثلي |
(وَارْكَعُوا) أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب ، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى ، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول :
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم |
|
عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل |
ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب و ـ البر ـ سعة المعروف والخير ، ومنه البر ، والبرية للسعة ، ويتناول كل خير ، والنسيان ـ كما في البحر ـ السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله ، وقد نزلت هذه الآية ـ على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ولا يتبعونه وقيل : إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان ، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية ، والتوبيخ ليس على أمر الناس (بِالْبِرِّ) نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التوراة ، والجملة حال من فاعل (أَتَأْمُرُونَ) ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف ، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه ، و ـ العقل ـ في الأصل المنع والإمساك ، ومنه ـ عقال البعير ـ سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل