على ما يحسن ، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم ، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول ، والمعنى ـ أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته ـ أو (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين ، فإن المقصود من الأمر (بِالْبِرِّ) الإحسان والامتثال ، والزجر عن المعصية ، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض ، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر ، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر ، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع ـ وإن كان خطابا لبني إسرائيل ـ إلا أنه عام ـ من حيث المعنى ـ لكل واعظ يأمر ولا يأتمر ، ويزجر ولا ينزجر ، ينادي الناس البدار البدار ، ويرضى لنفسه التخلف والبوار ، ويدعو الخلق إلى الحق ، وينفر عنه ، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان ، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.
وعن محمد بن واسع قال : بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار ، فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ، ونخالف إلى غيرها ، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين ، وحمل الكتاب على القرآن ، فيكون ذلك من تلوين الخطاب ـ كما في ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي) [يوسف : ٢٩] والظاهر يبعده (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع ، وكان ذلك شاقا عليهم ـ لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم ـ عالج مرضهم بهذا الخطاب ، و «الصبر» حبس النفس على ما تكره ، وقدمه على الصلاة ـ لأنها لا تكمل إلا به ـ أو لمناسبته لحال المخاطبين ، أو لأن تأثيره ـ كما قيل ـ في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ـ واللام ـ فيه للجنس ، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه ـ وهو الصوم ـ بقرينة ذكره مع الصلاة ـ والاستعانة بالصبر ـ على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح ـ توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه ـ ولذا قيل : الصبر مفتاح الفرج ، وبه ـ على المعنى الثاني ـ لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى ـ الموجب لإجابة الدعاء ـ وأما الاستعانة ب (الصَّلاةِ) فلما فيها من أنواع العبادة ، مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب ، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب ، ويغسل بها العاصي درن العيوب ، وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى ، وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة ، وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد ، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة.
(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الضمير للصلاة ـ كما يقتضيه الظاهر ، وتخصيصها ـ برد الضمير إليها ـ لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر ، ومعنى ـ كبرها ـ ثقلها وصعوبتها على من يفعلها ، على حد قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] والاستثناء مفرغ أي (لَكَبِيرَةٌ) على كل أحد (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) وهم المتواضعون المستكينون ، وأصل ـ الخشوع ـ الإخبات ، ومنه الخشعة ـ بفتحات ـ الرمل المتطامن ، وإنما لم تثقل عليهم ، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم ، ولذلك قيل : من