عرف ما يطلب ، هان عليه ما يبذل ، ومن أيقن بالخلف ، جاد بالعطية ، وجوّز رجوع الضمير إلى ـ الاستعانة ـ على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ورجح بالشمول ، وما يقال : إن الاستعانة ليست ب (لَكَبِيرَةٌ) لا طائل تحته ، فإن الاستعانة ب (الصَّلاةِ) أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها ـ على وجه الاستعانة بها على الحوائج ـ أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك ، وقيل : يجوز أن يكون من أسلوب (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٨] وقوله :
إن شرخ الشباب والشعر الأس |
|
ود ما لم يعاص كان جنونا |
والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] أو المراد كل خصلة منها ، وقيل : الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها ، ومشقتها عليهم ظاهرة ، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) الظن في الأصل الحسبان ـ واللقاء ـ وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه ، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه ، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها ، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح ، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب ـ لكن من أين يعلم ما يختم به عمله ـ ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم ، وعدم أمنهم مكر ربهم (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩]. وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى ، إلا أن عطف (... أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) على ما قبله ـ يمنع حمل الظن على ما ذكر ـ لأن الرجوع إليه تعالى ـ المفسر بالنشور ـ أو المصير إلى الجزاء مطلقا ، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع ـ بل يجب القطع به ـ اللهم إلا أن يقدر له عامل ـ أي ويعلمون ـ أو يقال : إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع ، وهو كذلك غير مقطوع به ـ وإن كان أحد جزئيه مقطوعا ـ أو يقال : إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص ، أعني الثواب بدار السلام ، والحلول بجواره جل شأنه ـ والكل خلاف الظاهر ـ ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا ، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه ، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه ، والرجوع بمعنى المجازاة ـ ثوابا أو عقابا ـ فكأنه عز شأنه قال : يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك ، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم ـ فكيف من تيقنه ـ والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية ـ والمالكية للحكم ـ وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير.
«ومن باب الإشارة» (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة ، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية (بِالصَّبْرِ) على ما يفعل بكم ، لكي تصلوا إلى مقام الرضا (وَالصَّلاةِ) التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب ، وإن المراقبة لشاقة ـ إلا على ـ المنكسرة قلوبهم ، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة ، واستيلاء سطواتها القهرية ، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته ؛ فلا يجدون في الدار إلا شئون الملك اللطيف القهار (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة ، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب ، فكأنه قال سبحانه : إن لم تطيعوني لأجل سوابق