نعمتي ، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي ، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم ، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام ، وهو مما انفردت به ـ الواو ـ كما في البحر ، ويسمى هذا النحو من العطف ـ بالتجريد ـ كأنه جرد المعطوف من الجملة ، وأفرد بالذكر اعتناء به ، والكلام على حذف مضاف ، أي فضلت آباءكم ـ وهم الذين كانوا قبل التغيير ، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم ، قال الزجاج : والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) إلخ ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله ، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم ، والمراد ب (الْعالَمِينَ) سائر الموجودين في وقت التفضيل ، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته ، الذين هم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه ـ ولو صح ذلك ـ يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة ، ولا قائل به.
«ومن اللطائف» أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) إلخ ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] فشتان من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب ، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) اليوم الوقت ، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف ـ أي واتقوا العذاب (يَوْماً) ـ وإما مفعول به ـ واتقاؤه ـ بمعنى ـ اتقاء ما فيه ـ إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له ، وإلا ـ فالاتقاء ـ من نفس ـ اليوم ـ مما لا يمكن ، لأنه آت لا محالة ، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا ، والممكن المقدور ـ اتقاء ـ ما فيه بالعمل الصالح ، و (تَجْزِي) من جزى بمعنى قضى ، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول ، وبعن للثاني ـ وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة ـ والمعنى لا تقضي يوم القيامة (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) مما وجب عليها ، ولا تنوب عنها ، ولا تحتمل مما أصابها ، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء ، فنصب (شَيْئاً) إما على أنه ـ مفعول به ـ أو على أنه ـ مفعول مطلق ـ قائم مقام المصدر ، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك «ولا تجزئ» من أجزأ عنه إذا أغنى ، فهو لازم ، و (شَيْئاً) مفعول مطلق لا غير ، والمعنى لا تغني (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) من الإغناء ـ ولا تجديها نفعا ـ وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع ، وما فيه الشفاعة ، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى ، كما يشير إليه قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف ، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين ، فلا تقول : رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد أرغب فيه ، ومذهبه في هذا التدريج ، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل ـ فيصير منصوبا ـ فيصح حذفه كما في قوله :
فما أدرى أغيّرهم تناء |
|
وطول العهد أو مال أصابوا |
يريد أصابوه ، وقد يجوز ـ على رأي الكوفيين ـ أن لا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها «يوم» محذوف ـ لدلالة ما قبله عليه ـ فلا تحتاج إلى ضمير ، ويكون ذلك المحذوف ـ بدلا من المذكور ـ ومن ذلك ما حكاه الكسائي ـ أطعمونا لحما سمينا ، شاة ذبحوها ـ بجر شاة ـ على تقدير ـ لحم شاة ـ وحكى الفراء مثل ذلك ، ومنه قوله :