البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة ، والأعمال الشاقة من جمع المال ، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك ، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار ، والتمتع بدار القرار (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب ، والعملية التي هي العين اليسرى له ، والفهم الذي هو سمعه ، والسر الذي هو قلبه (وَيَسْتَحْيُونَ) قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها ، وفي ذلك ـ الإنجاء ـ نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه ، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.
(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) عطف على ما قبل ، و ـ الفرق ـ الفصل بين الشيئين ، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق ، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم ، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام ـ إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى ـ وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل ، وكونه مقصودا منه ـ إن لم نقل به ـ وإنما قال سبحانه : (بِكُمُ) دون لكم ، لأن العرب ـ على ما نقله الدامغاني ـ تقول : غضبت لزيد ـ إذا غضبت من أجله وهو حي ـ وغضبت بزيد ـ إذا غضبت من أجله وهو ميت ـ ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين ، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى ـ بسلوككم ـ ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى ، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدسسره : ـ إنهم كانوا يسلكون ، ويتفرق الماء عند سلوكهم ، فكأنه فرق بهم ـ يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة ، وقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣] وما قيل : إن الآلة هي العصا ـ كما تفهمه الآية ـ غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب ـ لا الفرق ـ ولو سلم يجوز كون المجموع آلة ، على أن آلية السلوك على التجوز ، وقد يقال : إن الباء للملابسة ، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل ، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية ، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم ، وهي ما أشار إليه موسى عليهالسلام بقوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢] ومن الناس من جعله حالا من (الْبَحْرَ) مقدما ـ وليس بشيء ـ لأن الفرق مقدم على ملابستهم (الْبَحْرَ) اللهم إلا على التوسع ، واختلفوا في هذا البحر ، فقيل : القلزم ـ وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ـ وقيل النيل ، والعرب تسمي الماء الملح ، والعذب بحرا ـ إذا كثر ، ومنه (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ (١) يَلْتَقِيانِ) [الرحمن : ١٩] وأصله السعة ، وقيل : الشق ، ومن الأول البحرة البلدة ، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها ، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا ، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا ، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه ، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.
(فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي من الغرق ، أو من إدراك فرعون وآله لكم ، أو مما تكرهون ، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال : بني هاشم ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] يعني هذا الجنس الشامل لآدم ، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك ، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) [الإسراء :