بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق ، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به ، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة ، ومن هنا قال بعضهم : إن إجابتهم نبيهم ـ حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام ، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب ، فهم قد كفروا بموسى عليهالسلام. ومن الناس من قال : كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليهالسلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليهالسلام داعبهم ، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء ، فأجابوا بما أجابوا ، وقيل : استفهموا على سبيل الاسترشاد ـ لا على وجه الإنكار والعناد ـ وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» ـ بالياء ـ على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان ، وحفص عن عاصم ـ بالضم وقلب الهمزة واوا ، والباقون ـ بالضم والهمزة ـ والكل لغات فيه.
(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من أن أعد في عدادهم ، و ـ الجهل ـ كما قال الراغب ـ له معان ، عدم العلم ، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل ـ سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا ـ وهذا الأخير هو المراد هنا ، وقد نفاه عليهالسلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به ـ وهو الاستهزاء على طريق الكناية ـ وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له ، إذ ـ الهزء ـ في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه ، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ـ التوبة : ٣٤ ـ الانشقاق : ٢٤] سائغ شائع ـ وفرق بين المقامين ـ وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك ، والأول أولى ـ وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام ـ والفرق بين ـ الهزء والمزح ـ ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي سل لأجلنا (رَبُّكَ) الذي عوّدك ما عوّدك ـ يظهر (لَنا) ما حالها وصفتها ، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة ، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان ـ ولا ثالث لهما ـ لتستعمل (ما) فيه ، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل ـ وإلا فلمكان التعجب ـ وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة ، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد ، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب. وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال ، و (ما) وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور ، وهو إما مجاز أو اشتراك ـ كما صرح به في المفتاح ـ والغالب السؤال بها عن الجنس ، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه ـ وهو إحياء الميت بضرب بعضه ـ منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا ، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور ، والقول إنه يمكن أن يجعل (ما هِيَ) على حذف مضاف ـ أي ما حالها؟ ـ فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية ـ على بعده ـ خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. و (ما) استفهامية خبر مقدم ل (هِيَ) والجملة في موضع نصب ب (يُبَيِّنْ) لأنه معلق عنها ، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب ، والمعنى (يُبَيِّنْ لَنا) جواب هذا السؤال (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر ، والفعل ـ فرضت ـ بفتح الراء