يتضمن معنى القول دون حروفه ، وهو العهد ، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو (أَنْ طَهِّرا) والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض ؛ وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان ، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليهالسلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها ، وقيل : المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه ، وقيل : أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه ، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد ، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليهالسلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب ، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي ، وتمام البناء بمباشرته كما ينبئ عنه إيراده إثر حكاية جعله (مَثابَةً) وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك (ناقَةُ اللهِ) [الأعراف : ٧٣ ، هود : ٦٤ ، الشمس : ١٣] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا (لِلطَّائِفِينَ) أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له ، و ـ الطائف ـ اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله ، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد ـ وإليه ذهب عطاء وغيره ـ وقال ابن جبير : والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.
(وَالْعاكِفِينَ) وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير ، وقال عطاء : هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب ، وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء ، وقيل : هم المعتكفون فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وهم المصلون جمع راكع وساجد ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن ، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [٣٥] (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ولعل السؤال متكرر ، وما في تلك السورة كان بعد ، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي ، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى ، وثانيا الأمن المعهود ، ولك أن تجعل (هَذَا الْبَلَدَ) في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا ، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١ ، القارعة : ٧] وإما على الاتساع والإسناد المجازي ، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك ، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا