(بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) «ما» إما مصدرية أي ـ بنفعهم ـ أو موصولة أي ـ بالذي ينفعهم ـ وعلى الأول ضمير الفاعل إما ـ للفلك ـ لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى ـ كما قيل ـ أو ـ للجري ـ أو ـ للبحر ـ واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) عطف على (الْفُلْكِ) قيل : وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل ، وقيل : المقصود من الأول الاستدلال ب (الْبَحْرِ) وأحواله لا ب (الْفُلْكِ) الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء ، أو العلم بكيفية اجرائه ، أو ـ بتسخير الريح والبحر ـ لذلك ، أو توسله إلى (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) وشيء منها ليس من حاله في نفس ، ولأن الاستدلال ـ بالفلك الجاري في البحر ـ استدلال بحال من أحوال (الْبَحْرِ) بخلاف ما لو استدل ب (الْبَحْرِ) وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام ، إلا أنه خص (الْفُلْكِ) بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال : والعجائب التي في البحر ـ لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه ـ فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله ، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته ، ولذلك قدم على ذكر ـ المطر والسحاب ـ لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وإلا فالمناسب بعد ذكر (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الذي هو من الآيات العلوية ذكر ـ المطر والسحاب ـ اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم (الْفُلْكِ) في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا ـ وإن جل قائله ـ إذ يؤول المعنى إلى ـ والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس ـ وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه ، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة ، متعلقة بحبال الهواء على لطفه ، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه ، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم ، ووجه الترتيب ـ على ما أرى ـ أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي ، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين ، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم ، وهو (الْفُلْكِ) التي تجري على كبد (الْبَحْرِ) بذلك ، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك ، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٣٧ ـ ٤١] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار ، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما ، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي ، وله مناسبة لذكر (الْبَحْرِ) بل ولذكر (الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي) فيه (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء ، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. و (مِنَ) الأولى ابتدائية والثانية بيانية ، وجوّز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى ، والمراد من (السَّماءِ) جهة العلو ، وقد تقدم تحقيق ذلك (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بتهييج قواها النامية ، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف إما على (أَنْزَلَ) والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل ، و (فَأَحْيا) من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف ، إما على «أحيا» فيدخل تحت فاء السببية ، وسببية إنزال «الماء»