وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر ـ الرجولية ـ التي بها ظهرت المزية (لِلرِّجالِ) على النساء (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام (حَكِيمٌ) عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها ، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل ـ كالسلام بمعنى التسليم ـ لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة ، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بالرجعة وحسن المعاشرة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق ، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين ، أو يطلقها الثالثة ـ وهو المأثور ـ فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال : يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ إني أسمع الله تعالى يقول (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال : «التسريح بإحسان هو الثالثة» وهذا يدل على أن معنى (مَرَّتانِ) اثنتان ، ويؤيد العهد ـ كالفاء ـ في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة ، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل ، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية ، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق ، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم (الْمُطَلَّقاتُ) من العدة والرجعة ، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة ، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة ـ وأوفق بسبب النزول ـ فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة ، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ؛ ثم قال : والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا ، فأنزل الله تعالى الآية ، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم ، واستدلوا عليه بأن ـ عويمرا العجلاني ـ لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه ـ رواه الشيخان ـ فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف ، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون ، وقال ساداتنا الحنفية : إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة ، وإنما السنة التفريق لما روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة» فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين ـ أعني ما لا يستوجب عقابا ـ وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع ، والطلاق في الحيض بدعة ـ أي موجب لاستحقاق العقاب ـ وبهذا يندفع ما قيل : إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة ، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف ، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي ، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع ـ حتى يستفاد به الحكم ـ المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها ـ لا الطلاق ـ ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث ، وهي في المفرق على ـ الاطهار ـ ثابتة نظرا إلى دليلها ، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها ، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره ـ وهو ما ذكرناه ـ انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم ـ لا مقسم ـ وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت