على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ٣] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)(١) بسيوف الهوى ونبال الضلال (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاء به الوحي (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي ، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها (وَما ظَلَمْناهُمْ) [هود : ١٠١ ، النحل : ١١٨ ، الزخرف : ٤٣] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول (اللهُ لا إِلهَ) في الوجود العلمي (إِلَّا هُوَ الْحَيُ) الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته (الْقَيُّومُ) الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به ، وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به ، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.
و (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) إذ كلهم له ومنه وإليه وبه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من الخطرات (وَما خَلْفَهُمْ) من العثرات ، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات ، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ) معلوماته التي هي مظاهر أسمائه (إِلَّا بِما شاءَ) كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الذي هي قلب العارف (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد ، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به ، وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت (وَلا يَؤُدُهُ) ولا يثقله
__________________
(١) كذا في الأصل ، ولفظة «جاءوا» ليست من ضمن الآية.