بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته ، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع ـ أي تقبل نذرها ـ مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية عنه أنه سوّى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام ، وقيل : تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. و (نَباتاً) هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات ، وقيل : التقدير فنبتت نباتا ، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ـ أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ـ على ما ذكر في حديث ابن عباس ، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى ، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك ، وقرأ بتشديد الفاء حمزة ، والكسائي ، وعاصم وقصروا (زَكَرِيَّا) غير عاصم في رواية ابن عياش ـ وهو مفعول به لكفلها ـ وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا (زَكَرِيَّا) ورفعوه على الفاعلية ـ وفيه لغتان أخريان ـ إحداهما «زكريّ» ـ بياء مشددة من غير ألف ، وثانيتهما «زكر» بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل : لألف التأنيث ، وقرأ أبي «وأكفلها» ، وقرأ مجاهد ـ «فتقبّلها ربّها» و «أنبتها» و «كفلها» على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب «ربها» على النداء أي فاقبلها يا ربها وربها ، واجعل زكريا كافلا لها ، وقد استجاب الله تعالى دعائها في جميع ذلك ، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها ، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) بيان لقبولها ولهذا لم يعطف ، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعل بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة ، وقيل : المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب ؛ وقيل : أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي ، وأصله مفعال صيغة مبالغة ـ كمطعان ـ فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه ، وقيل : إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح :
جمع الشجاعة والخشوع لربه |
|
ما أحسن المحراب في المحراب |
وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها ، ونصب (الْمِحْرابَ) على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي أو بإلى وإظهار الفاعل قيل : لفصل الجملة ، و (كُلَّما) ظرف على أن «ما» مصدرية ، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط ، ومن الناس من وهم فقال : إن ناصبه فعل الشرط ، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها ، أخرج ابن جرير عن الربيع قال : إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة ، فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط ، وقيل : إن هذا كان بعد أن ترعرعت ، ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في