الروايات عنه ـ وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل ، وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه عليهالسلام كان كالأنملة ، وفي بعض الروايات كالقذاة ، وفي أخرى كالنواة. وفي بعض كهدبة الثوب ، قيل : والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء ، وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح ، والكلام مخرج مخرج المدح ، وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال : إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليهالسلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.
ومن هنا قيل : إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليهالسلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة ، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء ، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال ، والذي يضل الأعمى ، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا» وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا» ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليهالسلام أيضا كذلك.
أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا. وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليهالسلام مرّ في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت (وَنَبِيًّا) عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم ـ فمن ـ على الأول للابتداء ، وعلى الثاني للتبعيض قيل : ومعناه على الأول ذو نسب ، وعلى الثاني معصوم ، وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد ـ نبيا ـ وقد يقال : المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليهالسلام (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ولعله أولى مما قبل.
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال زكريا عليهالسلام حينئذ؟ فقيل : (قالَ رَبِ) إلخ ، وخاطب عليهالسلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل ، و (أَنَّى) بمعنى كيف ، أو من أين ، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها (غُلامٌ) و (أَنَّى) واللام تعلقان بها ، ويجوز أن تكون ناقصة ، و (لِي) متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة ، وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما (أَنَّى) لأنها بمعنى كيف ، أو من أين ، والثاني أن الخبر الجار ، و (أَنَّى) منصوب على الظرفية ، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧](وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر فيّ ، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب.
روي عن ابن عباس أنه كان له عليهالسلام ـ حين بشر بالولد ـ مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، وقيل : كان له من العمر تسع وتسعون سنة ، وقيل : اثنتان وتسعون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل: خمس وسبعون ، وقيل سبعون ، وقيل : ستون (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) جملة حالية أيضا إما من ياء (لِي) أو ياء (بَلَغَنِيَ) و ـ العاقر ـ العقيم التي لا تلد من العقر ـ وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد ، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ـ قاله أبو البقاء ـ وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما (وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها ، وإنما قال ذلك عليهالسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليهالسلام الشواهد