وهذا «ومن باب البطون» في الآيات أن زكريا عليهالسلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة عن إراداتها مقدسة من شهواتها (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ) على ساق الخدمة (يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) وهو محل المراقبة ومحاربة النفس (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة ، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة (وَسَيِّداً) وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق ، وقال الصادق : هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا ؛ وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه ، وقال ابن عطاء : هو المتحقق بحقيقة الحق ، وقال ابن منصور : هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلي بنعوت الربوبية ، وقال محمد بن علي : هو من استوت أحواله عند المنع والإعطاء والرد والقبول (وَحَصُوراً) وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية ، وقال الاسكندراني : هو المنزه عن الأكوان وما فيها (وَنَبِيًّا) أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) والحال (قَدْ (١) بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وهو أحد الموانع العادية (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وهو مانع آخر (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) حسبما تقتضيه الحكمة (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به (إِلَّا رَمْزاً) تدفع به ضيق القلب عند الحاجة ، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات (وَسَبِّحْ) أي نزه ربك عن الشركة في الوجود (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) بالفناء والبقاء.
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا) الاستعداد (رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ممن صدق في الطلب (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) القوى الروحانية (وَهُوَ قائِمٌ) منتهض لتكميل النشأة (يُصَلِّي) ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق (وَسَيِّداً) لم تملكه الشهوات النفسانية (وَحَصُوراً) أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية (وَنَبِيًّا) بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء (قالَ) رب (أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وضعف القوى الطبيعية (وَامْرَأَتِي) وهي النفس الحيوانية (عاقِرٌ) عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية (قالَ كَذلِكَ اللهُ) في غرابة الشأن (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات ، وبقي أسيرا في سجن العادات (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات (إِلَّا رَمْزاً) أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية (كَثِيراً) حيث منّ عليك بخير كثير (وَسَبِّحْ) أي نزه