(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) من تتمة الكلام الأول ، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى ، ولما لم يصلح (يُلْقُونَ) للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه :
«أحدها» أن يقدر ينظرون (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية ـ كما صرح به ابن الحاجب. وابن مالك في التسهيل ـ وثانيها أن يقدر ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له ، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد ، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام ، وثالثها أن يقدر يقولون ، أو ليقولوا (أَيُّهُمْ) واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع (أَيُّهُمْ) وأجيب بأنه مفيد ، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين ، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له ، وأجيب بتأويله كما أول في سابقة ، وقيل : يؤول بالحكم أي ليقولوا وليحكموا (أَيُّهُمْ) إلخ ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون لعلموا ، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر ، أو العلم يغني عن الآخر ، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل (أَيُّهُمْ) بدلا عن ضمير الجمع ـ أي يلقى كل من يقصد الكفالة ـ وتتأتى منه ، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي ، وقبله في آخر ، وتكرير (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) مع تحقق المقصود بعطف (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على (إِذْ يُلْقُونَ) للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء ، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلىاللهعليهوسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك ـ قاله شيخ الإسلام.
واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاحّ على قولين : أحدهما وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل ، وثانيهما أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليهالسلام عن تربيتها ، وهو قول مرجوح ، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر ، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق ، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلا خرج سهم المحق ، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه ، أليس الله تعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] وقال الباقر رضي الله تعالى عنه : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع في قصة عيسى عليهالسلام ، والمراد بالملائكة جبريل عليهالسلام على المشهور ، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة ، و (إِذْ) المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل ، وقيل : بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا : وترك العطف بناء على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان ، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا ، وأن يكون ظرفا ـ ليختصمون ـ وقيل : إنه بدل من (إِذْ) المضافة إليه ، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة ـ فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط ـ غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام ، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال : إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها ، قيل : ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناء