(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها ، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة ، وقيل : إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم ، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) إلخ (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس ، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك (طَوْعاً) باختياره وشعوره (وَكَرْهاً) من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار ، ولهذا سقط عن درجة القبول (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في العاقبة حين يكشف عن ساق (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) وهو التوحيد (دِيناً) له (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) ويوم القيامة الكبرى (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة ، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي ، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) ولله در من قال :
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت |
|
ظنون مربيه وخاب المؤمل |
فموسى الذي رباه جبريل كافر |
|
وموسى الذي رباه فرعون مرسل |
هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم ـ إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم ، و ـ تنال ـ من تنال نيلا إذا أصاب ووجد ، ويقال : نال العلم إذا وصل إليه واتصف به ، (الْبِرَّ) الإحسان وكمال الخير ، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك ، والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا ، وضد (الْبِرَّ) العقوق ، وضد الخير الشر ، و ـ أل ـ فيه إما للجنس والحقيقة ، والمراد لن تكونوا أبرارا حتى (تُنْفِقُوا) وهو المروي عن الحسن ، وإما لتعريف العهد ، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا ، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير (الْبِرَّ) بالجنة ، وروي مثله عن مسروق ، والسدي ، وعمرو بن ميمون ، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي ـ لن تنالوا ثواب البر ، و (حَتَّى) بمعنى إلى ، و ـ من ـ تبعيضية ، ويؤيده قراءة عبد الله بعض ما تحبون ، وقيل : بيانية ، وعليه أيضا لا تخالف بين القراءتين معنى ، و «ما» موصولة ، أو موصوفة ، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي.
وفي المراد من قوله سبحانه : (مِمَّا تُحِبُّونَ) أقوال ، فقيل المال وكني بذلك عنه لأن جميع الناس يحبون ، وقيل : نفائس الأموال وكرائمها ، وقيل : ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها ، والإنفاق على هذا مجاز ، وعلى الألين حقيقة وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى ، فقد أخرج الشيخان ، والترمذي ، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان