المحيي إذا قلنا : إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا ، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء ـ لأهل ، أو عظامهم ـ يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر ، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه ، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل ، و (أَنَّى) نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى ، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف ، والعامل فيه على أي حال (يُحْيِي).
(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد ـ والعام ـ السنة من العوم وهو السباحة ، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه ، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية ، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له : كوسك فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى (قالَ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال له؟ فقيل قال : (كَمْ لَبِثْتَ) ليظهر له العجز عن الإحاطة بشئون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره (كَمْ) وقتا والناصب له (لَبِثْتَ) والظاهر أن القائل هو الله تعالى ، وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه ، وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس : (يَوْماً) ثم التفت فرأى بقية منها فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على الإضراب ، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) قيل : كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة ، واشتقاقه من ـ السنة ـ وفي لامها اختلاف فقيل : هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء ، وقيل : واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه ، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج ، وقيل : أصله لم يتسنن. ومنه ـ الحمأ المسنون ـ أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت : تظنيت ، وفي تقضضت : تقضيت ، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء ، ثم أبدلت الياء ألفا ، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال ، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [الأنعام : ١٩ ، ٩٣] و (أُوحِيَ إِلَيَّ) [هود : ٣٦](وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام: ٩٣] وصاحبها إما الطعام والشراب ، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله ، وهذا شريك ـ لم يتسنه ـ وقرأ أبي ـ لم يسنه ـ بإدغام