لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو ، وقيل : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل ، إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الكيد.
وقرأ الحسن وأبو حاتم ـ تعملون ـ بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى (مُحِيطٌ) علما أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه (وَإِذْ غَدَوْتَ) أي واذكر إذ خرجت عدوة (مِنْ) عند (أَهْلِكَ) والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل : تنزلهم ، وقيل : تسوي وتهيئ لهم ، ويؤيده قراءة ـ «للمؤمنين» ـ إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي مواطن ومواقف ومقامات له ، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه قيام وقعود ، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم ـ وجملة (تُبَوِّئُ) حال من فاعل (غَدَوْتَ) ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة ، و (مَقاعِدَ) مفعول ثان ـ لتبوئ ـ والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد ، ولا يجوز ـ كما قال أبو البقاء ـ أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل.
روى ابن إسحاق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان ابن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة (١) فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر : اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا
__________________
(١) وعبر صلىاللهعليهوسلم ذبح البقرة بذبح أناس من أصحابه والثلم الذي بذباب سيفه بقتل رجل من أهل بيته ا ه من مؤلف رحمهالله كتبه مصححه.