وفي الخبر «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره» وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله ، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدا ، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم؟ قولان ، والجمهور على دخولهم. فعن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] قالت الملائكة : مات أهل الأرض فلما نزل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت : ٥٧] قالت الملائكة : متنا. ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين. ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة ، فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفي الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة ، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون ، ولعلهم يفرقون بين موت وموت ، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر ، وقرأ اليزيدي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت على الأصل ؛ وقرأ الأعمش (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بطرح التنوين مع النصب كما في قوله :
فألفيته غير مستعتب |
|
ولا ذاكر لله إلا قليلا |
وعلى القراءات الثلاث (كُلُّ نَفْسٍ) مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم ، و (ذائِقَةُ) الخبر ، وأنث على معنى (كُلُ) لأن (كُلُّ نَفْسٍ) نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ (كُلُ) جاز. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وقت قيامكم من القبور ، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة ، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» ، وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة.
(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي بعد يومئذ عن نار جهنم ، وأصل الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، وقد أريد هنا المعنى اللازم (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي سعد ونجا قاله ابن عباس ، وأصل الفوز الظفر بالبغية ، وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة ، ونيل المراد ، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد ، وفي الخبر «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية».
وأخرج أحمد ، ومسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر.
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لذاتها وشهواتها وزينتها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع ما يتمتع به وينتفع به مما يباع ويشترى وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند