والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه ، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه ، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ـ وآمن المؤمنون ـ وعليه يكون قوله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ) جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ ، و (كُلٌ) مبتدأ ثان ، و (آمَنَ) خبره ، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون (كُلٌ) تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها ـ ورجح الوجه الأول ـ بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك ، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة ، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ؛ ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلىاللهعليهوسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير ، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك ، وتوحيد الضمير في (آمَنَ) مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله ـ آمن ـ (بِاللهِ) أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك (وَمَلائِكَتِهِ) من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى : (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وكتابه ـ بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع ـ على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري ـ وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد ـ وهذا المبحث من معضلات علم المعاني ـ وقد فرغ من تحقيقه هناك.