(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير (كُلٌ) مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ـ ولعله أولى ـ والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير (آمَنَ) أو مرفوعة على أنها خبر آخر ـ لكل ـ أي يقولون ، أو يقول : لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها ، ومن اعتبر إدراج الرسول في (كُلٌ) واستبعد هذا قال : بالتغليب هاهنا ، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب ، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٣٦] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر ، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات ، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه ـ لا يفرق ـ بالياء على لفظ (كُلٌ) وقرئ لا يفرقون حملا على معناه ، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا ، والكلام على (أَحَدٍ) وإدخال (بَيْنَ) عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)(وَقالُوا) عطف على (آمَنَ) والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم (سَمِعْنا) أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع (وَأَطَعْنا) وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي ، وقيل : (سَمِعْنا) ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته ، و (أَطَعْنا) ما فيه من الأمر والنهي (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك ، أو نسألك غفرانك ذلك ، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ـ ولعل الأول أولى ـ لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص ، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول ، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي ، والجملة قيل : معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء ـ والتكليف ـ إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، و ـ الوسع ـ ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه ـ لا يكلف نفسا ـ من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.