وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر ، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة ، وإما بلسان أوليائه ، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد ، و (غُرُوراً) إما مفعول ثان للوعد ، أو مفعول لأجله ، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور ، أو غارا ، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن (يَعِدُهُمْ) في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين ، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد ، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما (أُولئِكَ) إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران (مَأْواهُمْ) ومستقرهم جميعا (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا ومهربا ، وهو اسم مكان ، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى ، ويقال : محيص ومحاص ، وأصل معناه كما قيل : الروغان ، ومنه وقعوا في حيص بيص ، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا ، و (عَنْها) متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا. ولم يجوزوا تعلقه ب (يَجِدُونَ) لأنه لا يتعدى بعن ، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد ، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه ، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدا خبره قوله تعالى :
(سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته ، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين ، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا وأحقه حقا ، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه ، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل ، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل (سَنُدْخِلُهُمْ) على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات ، ويكون (حَقًّا) حالا منه.
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) تذييل للكلام السابق مؤكد له ، فالواو اعتراضية ، و ـ القيل ـ مصدر قال ومثله القال.
وعن ابن السكيت : أنهما اسمان لا مصدران ، ونصبه على التمييز ، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع ، وبناء أفعل ، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة ، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى ، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه ، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي صدق ولا أصدق منه ، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه ، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلية ، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين : من أصدق من الله قيلا ، فيكون عطفا على (خالِدِينَ) أدهى وأمر.
وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) الخطاب للمؤمنين ، والأماني بالتشديد والتخفيف ـ وبهما قرئ ـ جمع أمنية على وزن أفعولة ، وهي كما قال الراغب : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها ، ويقال : منى له الماني أي قدر له المقدر ، ومنه قيل : منية أي مقدرة ، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له ، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور