وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ، وروي عن ابن مسعود ـ الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا ـ واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات ، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟ ، وظاهر الأحاديث ـ ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ـ أنها تكفرها ، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء» إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم ، وخص بعضهم الجزاء بالآجل ، ومن بالمشركين وأهل الكتاب ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا : وهذا كقوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] ، وقيل : المراد من السوء هنا الشرك ، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير ، وكلا القولين خلاف الظاهر ، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته (وَلِيًّا) يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى (وَلا نَصِيراً) ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به ، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا ، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد ، «فمن» تبعيضية ، وقيل : هي زائدة.
واختاره الطبرسي وهو ضعيف ، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر ، وقوله سبحانه (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) في موضع الحال من ضمير (يَعْمَلْ) و (مَنْ) بيانية.
وجوز أن يكون حالا (مِنَ الصَّالِحاتِ) و (مَنْ) ابتدائية أي كائنة (مِنْ ذَكَرٍ) إلخ ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى ، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى ـ الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى ـ لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم ، وجعلهن محرومات من الميراث ، وقوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال أيضا ، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه ، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل ، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان ، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.
(يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء عملهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (يَدْخُلُونَ) مبنيا للمفعول من الإدخال (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم ، فإن النقير علم في القلة والحقارة ، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة ، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب ، فإذا لم يرض بالأول ـ وهو أرحم الراحمين ـ فكيف يرضى بالثاني ـ وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب ـ مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا ، والجملة تذييل لما قبلها ، أو عطف عليه.