بعضهم على ما يشمل القسمين ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده.
وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا ، وأبعد منه بمراحل ـ بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة ـ كون المراد منها كونوا (شُهَداءَ لِلَّهِ) تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك (إِنْ يَكُنْ) أي الشاهد (غَنِيًّا) تضر شهادته بغناه (أَوْ فَقِيراً) تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه (فَاللهُ) تعالى (أَوْلى بِهِما) من أنفسهما ، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما ، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي ؛ وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم ، وهو ظاهر على رأي ، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق ، وفي الشهادة حقوق ، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى ، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه ، وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : الخطاب لهم ، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا ، أو (آمَنُوا) بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي ، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى (آمَنُوا) أخلصوا الإيمان ، واختاره الزجاج وغيره.
وقيل : لمؤمني اليهود خاصة ، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلىاللهعليهوسلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم ، وقيل : لمؤمني أهل الكتابين ، وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : للمشركين المؤمنين باللات والعزى ، وقيل : لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف: ١٧٢] والكتاب الأول القرآن ، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد : (وَكُتُبِهِ) والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلىاللهعليهوسلم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب ، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها ، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه.
ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود ، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل : آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ـ نزل ، وأنزل ـ على البناء