ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليهالسلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليهالسلام فلما خرج قتلوه وصلبوه.
وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر : «أتى عيسى عليهالسلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليهالسلام فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليهالسلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليهالسلام» ، وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق ، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليهالسلام ألقي على جميعهم بل قالوا : ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليهالسلام من بينهم.
ورجح الطبري قول وهب ، وقال : إنه الأشبه ، وقال أبو علي الجبائي : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته ، وقالوا : إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليهالسلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا ، وقيل : كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليهالسلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليهالسلام فرفع عليهالسلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليهالسلام ، وقيل : غير ذلك ، و (شُبِّهَ) مسند إلى الجار والمجرور ، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليهالسلام ومن صلب ، أو في الأمر ـ على قول الجبائي ـ أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي (شُبِّهَ لَهُمْ) من قتلوه بعيسى عليهالسلام ، أو الضمير للأمر و (شُبِّهَ) من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول ، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في شأن عيسى عليهالسلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا ، وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه ـ إن الله تعالى يرفعني إلى السماء ـ إنه رفع إلى السماء ، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليهالسلام : صلب الناسوت وصعد اللاهوت ، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين : إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال : مات ولم يمت ، وأهين ولم يهن.
وأما الروم القائلون : بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين ، فيقال لهم : فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا : فارقه فقد أبطلوا دينهم ، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد ، وإن قالوا : لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت ، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة ، وقلنا لهم : أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص ، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه ، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية ، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه ، ويقولون : لا يجوز ذلك لأنه إضلال ، ورده أظهر من أن يخفى ، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا