الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون ، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا ، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة ، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرون بالأجر العظيم ، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة (يُؤْمِنُونَ) وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة ، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) [النساء : ١٥٣] الآية كأنه قيل : لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك ، وروي هذا عن قتادة وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة «سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى : (الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ).
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم ، وقيل : هو تعليل لقوله تعالى : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال سكين وعدي بن زيد : يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليهالسلام فأنزل الله تعالى هذه الآية» والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح عليهالسلام ، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا إلخ ، وما في الوجهين مصدرية.
وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي : و (مِنْ) بعده متعلق ـ بأوحينا ـ ولم يجوّزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث ، وبدأ سبحانه بنوح عليهالسلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه ، وقيل : لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام ، وتعقب بالمنع ، وقيل : لمشابهته بنبيناصلىاللهعليهوسلم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض ، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليهالسلام اتفاقي لا قصدي ، وعموم الفرق على القول به ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.
(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) عطف على (أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب عليهالسلام في المشهور ، وقال غير واحد : إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل ، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول : أرسلت إلى بني تميم ، وتريد أرسلت إلى وجوههم ، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليهالسلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي ـ وألف فيه الجلال السيوطي رسالة ـ خلافه (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام ، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي ، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره ، وقدم عيسى عليهالسلام على من بعده تحقيقا