وقيل : التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة (وَيَسْتَكْبِرْ) أي عن ذلك ، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض بدون حصول المطلوب ، ونظير ذلك على ما قيل : قوله تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الأعراف : ٤٥ ، هود : ١٩ ، إبراهيم : ٣] ، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج ـ وتقدم ـ دون الاستنكاف ؛ وجاء في الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم ، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر على الإيمان ، واختاره مولانا أفضل المعاصرين ، ثم قال : وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر ، وتنكير الكبر للنوعية ، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول ، وإنما خص صلىاللهعليهوسلم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة ، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز ، ثم عرف صلىاللهعليهوسلم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور.
وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمهالله تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس ، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عليهمالسلام ، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال : التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، وقيل في توجيه المطابقة : إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى ، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها.
وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول (أَمَّا) على الفريقين لا على قسمي الجزاء ، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات ، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا ، وقرئ «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة ، وقرئ ـ فسنحشرهم ـ بنون العظمة ، وفيه التفات (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم» قال : يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) عن عبادة الله تعالى (وَاسْتَكْبَرُوا) عنها (فَيُعَذِّبُهُمْ) بسبب ذلك (عَذاباً أَلِيماً) لا يحيط به الوصف (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ