وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض ، وذلك كقوله تعالى : (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم ، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن (يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) بعد ظهور الإسلام وقوته ، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن زيارته والطواف به للعمرة ، وهذه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ آية بينة في عموم (آمِّينَ) للمشركين قطعا ، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم (أَنْ تَعْتَدُوا) أي عليهم ، وحذف تعويلا على الظهور ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم ، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا ، والمحل بعده إما جر ، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي ، أو لا حذف ، والمنسبك ثاني مفعولي (يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم ، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية ، ويقال : لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم ، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.
وقال شيخ الإسلام : لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية ، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى ، ولعله الأولى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) عطف على (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) من حيث المعنى كأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء ، وقال بعضهم : هو استئناف والوقف على (أَنْ تَعْتَدُوا) لازم ، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا ، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام ، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج ، فقد قال تعالى : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا ، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه ، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم ، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي ، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.
(إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لا يتقيه ، وهذا في موضع التعليل لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) والمراد تحريم أكل الميتة ، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه (وَالدَّمُ) أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه ، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح ، وأما الطحال فالأكثرون على