كونه أشرف منه (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) عطف على (أَكُونَ) وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام ، واعترضه كثير من المعربين ، وقال أبو حيان : إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك ، فإن تقديره إن تزرني أكرمك ، ولو قيل هاهنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي ـ لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه ، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي ، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك ، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين ، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول ، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار ، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو ، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب ، ثم قال : فإن قلت : الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع ، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه ، أما على العفو والمواراة فلا قلت : التوبيخ على جعل كل واحد سببا ، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى ، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد ، وقيل في توجيه ذلك إن الاستفهام للإنكار ـ وهو بمعنى النفي ـ وهو سبب ، والمعنى إن لم أعجز واريت ، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي ، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث ، قال الشهاب : والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام ، والكلام في الثاني ، فكيف يرد الأول نقضا ، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل ـ عجزت ـ بلم اهتد ، وقد قال في التسهيل : إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول ، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.
ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي ، والنفي من الخفاء ، وكذا في تأويل ـ عجزت ـ بلم أهتد هنا فليفهم ، وقرئ «أعجزت» بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز ، وقرئ ـ فأواري ـ بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف ، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد ، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا ، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية ، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح ، وهو الاستئناف لها انتهى ، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر ، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير ، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي صار معدودا من عدادهم ، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل. وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي ما ذكر في تضاعيف القصة ، و (مِنْ) ابتدائية متعلقة بقوله تعالى : (كَتَبْنا) أي قضينا ، وقيل : بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع ، و (كَتَبْنا) استئناف ، واستبعده أبو البقاء وغيره.
و ـ الأجل ـ بفتح الهمزة وقد تكسر ، وقرئ به ـ لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرئ بنقل الفتحة إليها في الأصل ـ الجناية يقال : أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية ، وفي معناه جر عليهم جريرة ، ثم استعمل في تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.
(عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم.