فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح ، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) بحسب الدواعي والمقتضيات (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) عن الناس في أنفسكم (مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) إذا لم تدع إليه داعية (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء (وَكِتابٌ) خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال ، وهما إشارة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي بواسطته (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من أراد ذلك (سُبُلَ السَّلامِ) وهي الطرق الموصلة إليه عزوجل.
وقد قال بعض العارفين : الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلىاللهعليهوسلم (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية (إِلَى النُّورِ) وهو نور الرضا والتسليم (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الترقي في المقامات العلية ، وقد يقال : الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال ، والثانية إلى توحيد الصفات ، والثالثة إلى توحيد الذات (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه ـ وهو الوجود المطلق ـ حتى عن قيد الإطلاق (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فإن كل ذلك من التعينات والشئون والله من ورائهم محيط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ويظهر ما أراد من الشئون (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار ، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه ، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين ، فقال الواسطي : ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون ، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) منهم فضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منهم عدلا (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) بالولاية ومعرفة الصفات ، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة ، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي ، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانكم ، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليهالسلام (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وهي حضرة القلب (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) في القضاء السابق حسب الاستعداد (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) في الميل إلى مدينة البدن ، والإقبال عليه بتحصيل لذاته (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) لتفويتكم أنوار القلب وطيباته (قالُوا يا مُوسى إِنَّ (١) فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) وهي صفات النفس (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة ، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) حينئذ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) سوء عاقبة ملازمة الجسم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالهداية إلى الصراط السوي ـ وهما العقل النظري والعقل العملي ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب قرية القلب ـ وهو التوكل بتجلي الأفعال ـ كما أن باب قرية الروح هو الرضا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) بخروجكم عن أفعالكم وحولكم ، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحقيقة وهو الإيمان عن