وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلىاللهعليهوسلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين ، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم ، وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي ، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه ، نعم ما قيل : من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن (سَمَّاعُونَ) الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد ، و (آخَرِينَ) صفة (لِقَوْمٍ) وجملة (لَمْ يَأْتُوكَ) صفة أخرى ، والمعنى لم يحضروا عندك ، وقيل : هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك ، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلىاللهعليهوسلم ، وفرط عداوتهم ، واحتمال كونها صفة (سَمَّاعُونَ) أي (سَمَّاعُونَ) لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقوله سبحانه وتعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) صفة أخرى (لِقَوْمٍ) وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي ، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال ، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى ، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر ، وقيل : الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم ، وقيل : إلى الفريقين ، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة ، أو كلام الرسول صلىاللهعليهوسلم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله ، أو تغيير وضعه ، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) دون عن مواضعه ، وقال عصام الملة : إن إدراج لفظ (بَعْدِ) للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع ، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه ، ولا يخفى بعده ، وقال بعضهم : إن (مِنَ) للابتداء ، ولفظ (بَعْدِ) للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد ، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى ، وقرأ إبراهيم ـ يحرفون الكلام (١) عن مواضعه ـ وقوله سبحانه وتعالى : (يَقُولُونَ) كالجملة السابقة في الوجوه ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير (يُحَرِّفُونَ) وجوز كونها كالتي قبلها صفة ـ لسماعون ـ أو حالا من الضمير فيه ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم والمخاطب به ممن يحضره ، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا ، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم ، فالحق الذي لا محيد عنه ـ وعليه درج غالب المفسرين ـ أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم (إِنْ أُوتِيتُمْ) من جهة الرسول صلىاللهعليهوسلم كما هو الظاهر (هذا فَخُذُوهُ) واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) من جهته بل أوتيتم غيره (فَاحْذَرُوا) قبوله وإياكم وإياه ، أو فاحذروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى ، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله
__________________
(١) قوله : «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه ؛ وحرر قراءة إبراهيم.