إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك ، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج ، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه ـ كما قيل ـ وليس بشيء ، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا ، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ) فلن تستطيع له (مِنَ اللهِ شَيْئاً) في دفع تلك الفتنة ، والفاء جوابية ، و (مِنَ اللهِ) متعلق ـ بتملك ـ أو بمحذوف وقع حالا من (شَيْئاً) لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى ، أو بدل الله عز اسمه ، و (شَيْئاً) مفعول به ـ لتملك ـ وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا (أُولئِكَ) أي المذكورون من المنافقين واليهود ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا ، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من رجس الكفر وخبث الضلالة ، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداء ، وفيها ـ كالتي قبلها على أحد التفاسير ـ دليل على فساد قول المعتزلة : إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد ، وقول بعضهم : إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب ، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان ـ كما قال البلخي ـ لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.
ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال : معنى ـ من يرد الله فتنته ـ من يرد تركه مفتونا وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا ، ومعنى (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير بقوله : كم يتلجلج والحق أبلج ، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر ، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد ، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب ، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع ، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله : لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون ، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع ، فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟!
وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى ، وتفصيهم عن ذلك عسير (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين ، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته ، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء بني النضير من ديارهم ، وتنكير (خِزْيٌ) للتفخيم وهو مبتدأ و (لَهُمْ) خبره ، و (فِي الدُّنْيا) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب ، كأنه قيل : فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وكذا الحال في قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي مع الخزي الدنيوي (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها ، وضمير (لَهُمْ) في الجملتين ـ لأولئك ـ من المنافقين واليهود جميعا ، وقيل : لليهود خاصة ، وقيل : (لَهُمْ) إن استأنفت بقوله سبحانه : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) وإلا فللفريقين ،