(لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا) على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى ـ كما يشعر به السياق ـ ويفهمه الكلام (مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) من الأموال ، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه ، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا ، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا ، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها ، ومن ذلك قول من قال :
ما كان ضرك لو مننت وربما |
|
منّ الفتى وهو المغيظ المحنق |
وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل ، ألا ترى أن من قال للأعمى : ما ذا عليك لو كنت بصيرا ، وللقصير ما ذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره.
واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة ، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل ـ وليست واجبة ـ وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة ، و «لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي ـ لو آمنوا لم يضرهم ـ وإما بمعنى أن المصدرية ـ كما قال أبو البقاء ـ وعلى الوجهين لا استئناف.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه ، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها ، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم ، ولو قيل : أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به ، وقيل : فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا ، ولا بأس بأن يراد ـ كان عليما بهم ـ وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية ـ كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال مفعال من الثقل ، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل : جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا ، وعلى مطلق المقدار ـ وهو المراد هنا ـ ولذا قال السدي : أي وزن ذرة ـ وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى.
وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد ، وعن الأول أنها رأس النملة ، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ، وقريب منه ما قيل : إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة ، وقيل : هي الخردلة ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ـ مثقال نملة ـ ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر ، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة ، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة ، والعظم كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم ، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول ، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف إليه مقامهما ، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة.