أي وأمرنا أن احكم ، وزعم بعضهم أن (أَنِ) هذه تفسيرية ، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك ، ثم فسر هذا الأمر باحكم ، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر ، وقال الطيبي : ولو جعل هذا الكلام عطفا على (فَاحْكُمْ) من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) كان أحسن ، ورد بأن (أَنِ) هي المانعة من ذلك العطف ، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال ، وقال بعضهم : إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلىاللهعليهوسلم كان مرتين : مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم ، فجاء كل أمر في أمر ، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى ، ونون (أَنِ) فيها الضم والكسر ، والمنسبك من (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال ، أي واحذر : فتنتهم لك وأن يصرفوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ) ـ تعالى ـ (إِلَيْكَ) ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق ؛ وقال ابن زيد : بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها ، وجوز أن يكون مفعولا من أجله ، أي احذرهم مخافة (أَنْ يَفْتِنُوكَ) وإعادة (ما أَنْزَلَ اللهُ) ـ تعالى ـ (إِلَيْكَ) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب ، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى ، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد صلىاللهعليهوسلم لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) وهو ذنب التولي والإعراض ، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة ، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها ، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها |
|
أو يرتبط بعض النفوس حمامها |
يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس ، وقال الجبائي : ذكر البعض ، وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص ، وقيل : المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان ، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك ، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض ، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة ـ على ما روي عن الحسن ـ إجلاء بني النضير ، وقيل : قتل بني قريظة ، وقيل : هي أعم من ذلك ، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك ، ولعله الأولى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة ، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه من التسلية للنبيصلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى ، وقيل : إنه عطف على قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل ، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده ، والمراد من الناس العموم ، وقيل : اليهود ، وقوله سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية ، وقيل : محل الهمزة بعد الفاء ، وقدمت أن لها الصدارة ، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب ، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام ، أو الأمة الجاهلية ، وحكمهم : ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية ، وحكمهم : ما ذكر ،