مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عزوجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ ، ولذلك قال سبحانه : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) وفيه من الوعيد ما لا يخفى ، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه ، فدخل حرف التوقع لذلك ، واعترضه الطيبي بأن (قَدْ) موضوعة لتوقع مدخولها ، وهو هاهنا عين النفاق ، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا ، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله : «إن أمارات النفاق» إلخ فيجب المصير إلى المجاز ، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه ، وقال في الكشف معرضا به : إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له ، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره ، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل ، وإنما لم يقل سبحانه و (قَدْ خَرَجُوا) على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية ، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلىاللهعليهوسلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من أولئك اليهود ـ كما روي عن ابن زيد ـ والخطاب لسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يصلح للخطاب ، والرؤية بصرية ، وقيل : قلبية ، وقوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) في موضع الحال من (كَثِيراً) الموصوف بالجار والمجرور ، وقيل : مفعول ثان ـ لترى ـ والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة ، وإيثار (فِي) على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه ، وإحاطته بأعمالهم ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
والمراد بالإثم الحرام ، وقيل : الكذب مطلقا ، وقيل : الكذب بقولهم (آمَنَّا) لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم ، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه ، وقيل : المراد به الكفر ، وروي ذلك عن السدي ، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل ، والمراد من العدوان الظلم ، أو مجاوزة الحد في المعاصي ، وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم ، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام مطلقا ، وقال الحسن : الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور ـ فما ـ نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في ـ بئس ـ والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه ، وجوز جعل (ما) موصولة فاعل ـ بئس ـ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) قال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة ، وقال غيره : كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم ، و (لَوْ لا) الداخلة على المضارع ـ كما قرره ابن الحاجب وغيره ـ للتحضيض ، والداخلة على الماضي للتوبيخ ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم ، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.
(عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما ، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا ، فإن