كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة ، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ ، ولذا يقال للحاذق ، صانع ، وللثوب الجيد النسج : صنيع ـ كما قاله الراغب ـ ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب ، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له ، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد ، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا ، أو غيرهما ، وقال الشهاب : إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار ، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل ، وفي الآية ـ مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ـ ما لا يخفى ، ومن هنا قال الضحاك : ما أخوفني من هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية ، وقرئ ـ لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (وَقالَتِ الْيَهُودُ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعكرمة والضحاك قالوا : إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم كف عنهم ما كان بسط لهم ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس (يَدُ اللهِ) عزوجل (مَغْلُولَةٌ) وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل ، ولذلك نظائر تقدم كثير منها ، وأرادوا بذلك ـ لعنهم الله تعالى ـ أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، أو كناية عن ذلك ، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل |
|
شكرت نداه تلاعه ووهاده |
ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله :
أضل صواره وتضيفته |
|
نطوف أمرها بيد الشمال |
«وقول لبيد» :
وغداة ريح قد كشفت وقرة |
|
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها |
ويقال : بسط اليأس كفيه في صدر فلان ، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان ، قال الشاعر :
وقد رابني وهن المنى وانقباضها |
|
وبسط جديد اليأس كفيه في صدري |
وقيل : معناه أنه سبحانه فقير ، كقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وقيل : اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا ، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل ، وكأنه حمل اليد على القدرة ، والغل على عدم التعلق.
وقيل : لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة ، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي ، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا ، والأقوال كلها كما ترى ، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير