أول ذلك بالنعمة ، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا ، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن ، وفي مصحف عبد الله ـ بل يداه بسطان ـ يقال : يد بسط بالمعروف ، ونحوه مشية سجح وناقة سرح (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من (كَيْفَ) وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها ، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد ، وقد اقتضت الحكمة ـ إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلىاللهعليهوسلم ـ أن يضيق عليهم ، و (كَيْفَ) ظرف ـ ليشاء ـ والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير (يُنْفِقُ) أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا ، وقيل : إن جملة (يُنْفِقُ) في موضع الحال من الضمير المجرور في (يَداهُ) واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه ، والحال لا يجيء منه ، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] إذ قيل : إن «شيخا» حال من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه ، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا ، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه ، أو كجزء فليس بممتنع ، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما ، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها ، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما ، ومن هنا قيل : بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدإ ، نعم التقدير خلاف الأصل ، والظاهر ، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع ، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) وهم علماؤهم ورؤساؤهم ، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن المشتمل على هذه الآيات ، وتقديم المفعول للاعتناء به (مِنْ رَبِّكَ) متعلق ـ بأنزل ـ كما أن (إِلَيْكَ) كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام ـ كما قال شيخ الإسلام ـ الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلىاللهعليهوسلم ، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف ، والموصول فاعل ـ ليزيدن ـ والإسناد مجازي ، و (كَثِيراً) مفعوله الأول ، و (مِنْهُمْ) صفته ، وقوله تعالى : (طُغْياناً وَكُفْراً) مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين ، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها ، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو ، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار ، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا ، ويحتمل أن يراد ـ بما أنزل ـ النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم ، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلىاللهعليهوسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه ، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد ، ولم أر من ذكره.
(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) أي اليهود.
وقال في البحر : الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) ولشمول قوله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) للفريقين ، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.
(الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم ، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة ، و (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق ، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية