هذا «ومن باب الإشارة» (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم ، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين ، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه ، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمراتب استعدادكم (حَكِيمٌ) ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة (أَنْ تَمِيلُوا) إلى السوي (مَيْلاً عَظِيماً) لتكونوا مثلهم (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أثقال العبودية في مقام المشاهدة ، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي ، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة ، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه.
والصبر يحمد في المواطن كلها |
|
إلا عليك فإنه مذموم |
وكان الشبلي قدسسره يقول : إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (لا تَأْكُلُوا) أي تذهبوا (أَمْوالَكُمْ) وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي (بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك ، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات (إِنَّ اللهَ كانَ) في أزل الآزال (بِكُمْ رَحِيماً) فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى ، والسكون في مقام الكرامات ، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.
وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وهي حضرة عين الجمع (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له ، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) بنور استعدادهم (وَلِلنِّساءِ) وهم الناقصون القاصرون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) حسب استعدادهم (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم ـ وهما الروح والقلب ـ والأقربون ـ وهم القوى الروحانية ـ (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) وهم المريدون (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بالاستعداد (وَبِما أَنْفَقُوا) في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه (مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي قواهم