بلغت؟ اللهم نعم ، لأنا نقول : إن الشرطية في الأمر الأول ـ بعد غمض العين عما فيه ـ ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن ، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير ، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلىاللهعليهوسلم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية ، ويرد على الأمر الثاني أمران : الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم ، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر ، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبي صلىاللهعليهوسلم فيها ـ اللهم هل بلغت ـ أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة ، وما ورد في غير ما أثر ـ من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب ، وظاهر حاله صلىاللهعليهوسلم في تلك الحجة ـ من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقد ذكره أهل السير ـ يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب ، والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير ، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة ، وكم قد بلغصلىاللهعليهوسلم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام ، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع ، فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال : سئل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال : «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليهالسلام فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية ، قال : فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة ، قال عليه الصلاة والسلام : فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه».
قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون : فيهم نزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] هوى النبي صلىاللهعليهوسلم أبا طالب ، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب ، وأصرح من هذا ما أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله عزوجل قد عصمني» فإن أبا طالب مات قبل الهجرة ، وحجة الوداع بعدها بكثير ، والظاهر اتصال الآية ، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على ما أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يحرس حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أخرج رأسه من القبة فقال : «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود ، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله ، والله تعالى أعلم ، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك ، فلا يرد أنه صلىاللهعليهوسلم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد ، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد ، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال : «لا زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي ، وأما ما فعل به صلىاللهعليهوسلم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس ، ولا يخفى بعده.