للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر ، والفاء كما قيل : فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطئوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا (آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة ، أو إتقان العلم والعمل ، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال (وَآتَيْناهُمْ) مع ذلك (مُلْكاً عَظِيماً) لا يقادر قدره ، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود ، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلىاللهعليهوسلم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة ، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة ، وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته ، ومن الضمير الراجع إليهم من (آتَيْناهُمْ) بعضهم ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهمالسلام ، وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلاثمائة امرأة ومثلها سرية» وعن محمد بن كعب قال : «بلغني أنه كان لسليمان عليهالسلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية» ، وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار.
ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم ، والملك العظيم بالنبوة ، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد ، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى (فَمِنْهُمْ) أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي بما أوتي آل إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ) أي أعرض (عَنْهُ) ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام ، وقيل : له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم ، وليس بشيء ، وقيل : معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير (بِهِ) و (عَنْهُ) على هذا لإبراهيم ، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلىاللهعليهوسلم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [النساء : ٤٧] أو على قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) إلخ في غاية البعد ، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله ، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهمالسلام ، ويدخل أولئك دخولا أوليا ، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه ، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام ، وعلى