للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ) إلخ.
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) أي فرضنا وأوجبنا (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر.
والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال : صدقت يا أبا بكر» وكعبد الله بن رواحة ، فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلىاللهعليهوسلم إليه بيده فقال : لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل». وكابن أم عبد ، فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال فيه : لو نزلت كان منهم» ، وأخرج عن الحسن قال : «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة : لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي» وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم مرا على المقداد فقال : لمن القضاء؟ فقال الأنصاري : لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليهالسلام فدعانا إلى التوبة منه ، وقال (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ؛ فقال ثابت بن قيس : أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلىاللهعليهوسلم أن أقتل نفسي لقتلتها ، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنهم فقال : «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم ، وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس ، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى ، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها : لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم ، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل ، وقال بعضهم : إن المراد أننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا. والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة ، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر ـ وهذا مما لا امتراء فيه ـ على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات ، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ) [الأعراف : ١٥٢] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا ، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى ؛ والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن ، ثم نقل كلامه في الآية.